في زمنٍ مسعور، يقف الإنسان على حافة روحه، يُطارد الأرباح ويراوغ الخسائر، يفتح عينيه على شاشات تتحدث بالأرقام لا بالمشاعر، ويغلق قلبه كما تغلق خزنة لا يودع فيها إلا المنفعة. صارت الأحاسيس عبئ يثقل الخطى، والرحمة تهمة تضعف السيرة الذاتية، حتى بات أقرب الناس إلى بعضهم غرباء، يتبادلون الكلمات كأنهم يجاملون فراغ. لم تعد الملامح تقرأ، بل تحسب. ولم يعد الإنسان يرى، بل يستخدم.
تحول الوعي الجمعي إلى آلة حسابية دقيقة، تزن كل علاقة بميزان الربح والخسارة، لا مكان فيه للإنصات، ولا اعتبار لما هو غير ملموس. المشاعر أصبحت بضاعة راكدة في سوق لا يبيع سوى ما يلمع، والاهتمام بالآخر صار عبئ يهرب منه الجميع باسم "العملية" و"الواقعية" و"النجاح". تراجع السؤال البديهي "إنت عامل إزاي؟"، أمام سيل من الأسئلة الأنانية "هستفيد إيه؟ هو ده يهمني؟ هي دي مشكلتي؟"
نعيش في زمن صار فيه التجمل على حساب التعاطف، والتخطيط على حساب الطيبة. حتى في أقرب الدوائر، نجد أنفسنا محاطين بأشخاص يعرفوننا فقط عند الحاجة، ويسمعوننا فقط إن كان في أصواتنا مصلحة لهم. الأصدقاء يستبدلون بسهولة، الأحبة يقيمون بالجهد المبذول والعطاء الملموس، والأهل يختصرون في الواجبات المادية.
هذه القسوة لم تأت فجأة، بل زحفت إلينا كما يزحف الظل في الغروب. تشربناها دون أن نشعر، وسميناها "نضج" و"قوة شخصية". فصرنا نخفي تعاطفنا، نكتم ألمنا، ونتهرب من كل ما هو "ضعف بشري"، وكأن التبلد نوع من المناعة. لكن الحقيقة أن هذا الجفاف العاطفي لا يحمي، بل يجرد. يفرغ القلب من معناه، ويحول الإنسان إلى كائن وظيفي... ينجز، يتحرك، يتكلم، لكنه لا يحس.
كل علاقةٍ لا تبنى على الإحساس مصيرها أن تنهار تحت وطأة التوقعات. كل مجتمع لا يربي أبناءه على الشعور بالآخر سيتحول يوم إلى غابة من العيون اللامبالية. وكل فرد يظن أن الرحمة ضعف، سيكتشف متأخر أن القوة الحقيقية لا تكمن في السيطرة، بل في الاحتواء.
إن أعظم ما يمكن أن يحتفظ به الإنسان في زحمة العالم هو إنسانيته. العقل الصلب قد يوصل إلى القمة، لكن القلب الرقيق هو ما يجعل الوصول إنجاز إنساني لا مجرد نصر حسابي. أن تحس بالناس، أن تلتفت لصمتهم قبل كلماتهم، أن تضع نفسك مكانهم دون أن تنتظر مقابل… تلك ليست رفاهية، بل بوصلة الروح. ومن فقد تلك البوصلة، تاه… مهما ظن أنه على الطريق.